عقولنا المسروقة

من طرف **noura** الجمعة مارس 06, 2009 1:29 am

بقلم : محمد مسعد ياقوت **

العلماء هم وِجَاء ُالأمم . إذا ماتو أو رحلوا حلَّ الجهلُ وتحكّم، فاتخذت الشعوب رؤسًا جهالاً، عندها فقل على الأمة السلام.. وإذا أردت أن تدمر دولة فاسرق علمائها، وإذا أردت أن تبني حضارة - في سنوات معدوات - فلا أقل من أن تفتح ذراعيك لعلماء العالم بالتكريم والدعم وتوفير البيئة العلمية السليمة، وتستقبل العلماء في مهجرهم الذي هو وطنك، فتبني بهم ما هدّمه الهادمون، وتصلح بهم ما أفسده الفاسدون ..

بالضبط، هذا ما صنعه الغرب ! لديه الإمكانات الكافية، والسياسات المحترمة، والقوانين المحكمة، التي تكفل للباحثين حق الإبداع بحرية . وإلى جانب وجود البيئة الجاذبة للعقول من كل أطراف الدنيا، كالمغناطيس الجاذب لبرادة الحديد من أطلال الرمال، يجد الغرب في الدول النامية - وعلى الأخص دول العالم العربي- البيئة الطادرة للعقول، فالعالم العربي بمثابة حيز التحضين لعقول الشباب العربي، ليأتي الغرب فيقطف الثمرة شابة غنية، فينميها ويطبخها.

وبين بيئتين " طاردة " - في المشرق العربي – و " جاذبة " في الغرب الأجنبي، تطير العقول العربية إلى الغرب كالحمام إلى أبراجه، فإذا بعقولنا العربية تسهم في تقوية " الآخر" علميًا وعسكريًا وحضاريًا .. ولا زالت أعداد الطيور المهاجرة تزيد يومًا بعد يوم، وتتضاعف سنة بعد سنة، حتى تتمخض الإحصاءات عن تصوير المأساة بوجهها الكالح؛ وإذا بأرقام العار تنزل على أقفيتنا كلطمات البحر :

فقد كشف تقرير للجامعة العربية ( 2008) أن نحو 50% من الأطباء العرب، و23% من المهندسين و15% من العلماء يهاجرون إلى الولايات المتحدة وكندا سنويًا، وأن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلادهم.

وقد أوضح التقرير أن 75 % من المهاجرين العرب من حملة المؤهلات العليا يستقرون في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا.

هذا، وقد كشف التقرير عن مفاجئة من العيار الثقيل، حيث أفاد أن 34% من الأطباء في بريطانيا هم من العرب !

هذه الإحصاءات المتسارعة العام بعد العام تشي بقدوم كارثة على جميع الأصعدة، تدفع الحُر الشريف أن ينقب عن جذور المشكلة .

وإن المتبصر في جوهر هذه الظاهرة، يرى أنها ليست وليدة الساعة بل هي نتاج عقود متراكبة، وعلل متراكمة، لاسيما بعيد ثورة يوليو 1952. ومن ثم فإن برنامج الحل لن يكون محصورًا في سنة ، أو مقصورًا في معالجة مشكلة جزئية أدت إلى هجرة العقول، كمشكلة ضعف التمويل.

إذن، فبرنامج الحل؛ متكامل وشامل، فهو طويل المدى ، ومحيط بالمشكلة من جميع جوانبها وأسبابها الظاهرة والباطنة .

أما عن أسباب ظاهرة هجرة العقول، فقد أُهلكت بحثًا، واتفق عليها القاصي والداني، ومثالها :

أسباب سياسية، اضهاد أصحاب الرأي من العلماء والباحثين، الأمر الذي يَزُج بهم إلى الهرب قبل أن يُزَج بهم إلى غياهب السجون والمعتقلات.

وأسباب إقتصادية تتعلق بضعف المخصصات المالية للبحث العلمي، ومن ثم ضعف الدعم المالي الموجه لكل باحث، فالباحث العربي لا يستطيع أن يقتات من لقيمات هينة ترمي بها الأنظمة على مضض إلى المجتمع الأكاديمي، الذي تعتبره مجتمعًا مزعجًا لا جدوى منه.

وفي الوقت الذي لا يجد الباحث فيه قوت يومه فضلاً عن الدعم المالي لأبحاثه، تراه ينظر بألم إلى صنيع الدولة وإغداقها الملايين على أهل الطرب والتمثيل والرقص بزعم رعاية الفن. فيترك الباحث وطنه يهيم حبًا في فن البغايا إلى وطن آخر يغرد للعلم والمعرفة .

وأسباب اجتماعية، فالمجتمع العربي غير المجتمع الأوربي ، الأول غابت فيه قيم حقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية وهو غير مشجع لكفاءات العلم والمعرفة، والثاني على خلاف ذلك، فهو الركن الشديد لكل صاحب رأي أو فكر أو علم، وعلى أثر ذلك ظهر " علماء المهجر"، " وأدب المهجر"، وغيرها من المصطلحات التي تمزج المَزجَ المر : بين " الفكر" و " الهجرة " . . ذلك المِزج الذي تجرعه أصحاب الرأي في غابر العصور.

وأسباب علمية تتعلق بمؤسسات البحث العلمي في العالم العربي، فهي هيئات حكومية ينتشر في كثير منها الفساد المالي والإداري ..

وهذه الأسباب التي طعم ذكرها الأقلمة، لم تخرج بعد من حالق الأفق الفكرية والأطروحات النظرية والمؤتمرات الكلامية إلى واقع التنفيذ، فنَصلح ما يمكن إصلاحه، ونعيد بناء المجتمع الأكاديمي العربي، الحر ، العادل، النزيه، السخي.

فنطلق عنان الحرية للباحث، ولندعمه الدعم الكريم، ولنكرّمه فنرد له اعتباره، ولنعلي من شأنه في المجتمع، [على الأقل كما نصنع مع أهل الفن ]، ولنثقف المجتمع بالمعارف العلمية، ولنحارب مظاهر الفساد في المؤسسات الجامعية والبحثية من رشوة ومحسوبية وسرقة ..

هذه أساسيات بديهة لصناعة بيئة أكاديمية جاذبة للعقول الهاربة .

أخشى أن تكون الأحلام !

بيد أن هذا هو طريق الخلاص للواقع العلمي ..